جرائم القتل فـي فلسطين… صراع الضحايا والحلّ الوطني..
بقلم : د. وليد القططي:
قُتِل قبل أسبوع 5 فلسطينيين من عائلةٍ واحدة رمياً بالرصاص في قرية بسمة طبعون بمنطقة الجليل شمال فلسطين المُحتلة عام 1948، ليصل عدد ضحايا جرائم القتل في شهر أيلول/سبتمبر الماضي في الداخل الفلسطيني المُحتل إلى 26 ضحية، وإلى 181 ضحية منذ بداية عام 2023.
وهذا عدد كبير مقارنة بالسنوات السابقة التي تُعتبر نسبة جرائم القتل فيها مرتفعة أصلاً؛ ولا سيما في السنوات الخمس الأخيرة التي كانت بمعدل 100 جريمة قتل سنوياً، وهذه الحقيقة تتطلب تسليط الضوء عليها في محاولة لمعرفة جذورها أملاً في المساهمة بوضع رؤية وطنية تنهيها، وهذا يتطلب بدوره البحث عن الجذور التي نبتت منها شجرة الجريمة الخبيثة، وهي المشروع الصهيوني.
قام المشروع الصهيوني الاستيطاني على تفريغ أرض فلسطين من شعبها العربي الفلسطيني لتطبيق الأكذوبة الصهيونية “فلسطين أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض”، فاتبعت العصابات الصهيونية المُسلحة استراتيجية الرعب بواسطة المجازر والإشاعات لتخويف وتهجير الشعب الفلسطيني من مدنه وقراه.
وفي حرب النكبة عام 1948 اتّبعت منظمة (الهاجاناه) كُبرى تلك العصابات الخطة “دالت”، وهدفها السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية وطرد أكبر عدد ممكن من الشعب الفلسطيني، فسيطرت بذلك على 78% من أرض فلسطين، وهجّرت منها نحو 800 ألف فلسطيني، وبقي فيها نحو 160 ألف فلسطيني صامدين في مدنهم وبلداتهم وقُراهم، تضاعف عددهم بالزيادة الطبيعية بمرور الزمن ليصل إلى ما يقرب مليوني فلسطيني، يشكّلون أكثر من 20% من سكان الكيان الصهيوني المُسمّى “إسرائيل”.
أخضع الكيان الصهيوني ما تبقّى من الشعب الفلسطيني الصامد في وطنه المُحتل عام النكبة إلى الحكم العسكري ما بين عامي 1948 – 1966، ومارس ضده كل أنواع القمع والإرهاب لإخضاعه لإرادته بالقوة.
وبعد عام 1966 ظلّ هدف الإخضاع موجوداً، لكن استراتيجية الإخضاع تغيّرت من الحكم العسكري إلى سياسة “الأسرلة”، ففرض على الفلسطينيين بموجبها الجنسية الإسرائيلية، وأطلق عليهم اسم “عرب إسرائيل”، وزعم أنه منحهم حقوق المواطنة في “الدولة”، وعمد إلى تدمير مقوّمات الهوية الوطنية الفلسطينية واستبدالها بهوية نقيضة لها تنتزعهم من شعبهم في بقية فلسطين (الضفة والقطاع) وخارجها (مخيمات اللاجئين والشتات)، وتعزلهم عن تاريخهم وامتدادهم العربي والإسلامي، وتفرّقهم عن بعضهم البعض داخلياً كأقليات دينية (مسلمين ومسيحيين)، ومناطقية (النقب والمثلث والجليل والساحل)… وساهمت الهزائم العربية المتتالية 48 – 56 – 67 – في فرض سياسة الأسرلة وتنامي تيارها.
لم توقف الأسرلة حكومات الكيان الصهيوني المتعاقبة عن ممارسة القمع والتمييز ضد الشعب الفلسطيني في فلسطين المُحتلة عام النكبة، فاستمرت في مصادرة أراضيهم، مما أدى إلى اندلاع انتفاضة يوم الأرض بتاريخ 30 آذار/مارس عام 1976، فكانت أول مؤشر على عودة الهوية الوطنية الفلسطينية كتحدٍ قوي لسياسة الأسرلة، ليعود النضال الفلسطيني داخل الكيان إلى سياق حركة التحرّر الوطني الثورية بعد محاولة وضعه بتأثير تيار الأسرلة في سياق حركة الحقوق المدنية المطلبية.
وقد تعمّق هذا السياق الوطني أثناء انتفاضة الحجارة الأولى بعد عام 1987، وانتفاضة الأقصى الثانية بعد عام 2000، وهبّة القدس بعد عام 2015، وانتفاضة سيف القدس عام 2021 المتزامنة مع معركة سيف القدس؛ ليكونوا جزءاً مشاركاً في النضال الوطني الفلسطيني كشعبٍ واحد له هوية وطنية واحدة.
مشاركة الشعب الفلسطيني في الأرض المُحتلة عام النكبة في فعاليات حركة الشعب الفلسطيني الوطنية في الضفة والقطاع دفع قادة الكيان الصهيوني إلى التفكير في وسائل أُخرى إلى جانب سياسة الأسرلة – لتدمير الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني، وتفكيك التماسك الوطني للمجتمع الفلسطيني؛ فكانت إحدى أهم هذه الوسائل هي نشر الجريمة المنظّمة ولا سيما المخدّرات والقتل، وهي الجرائم التي نشأت في البيئة اليهودية بتأثير موجة الهجرة الروسية عقب تفكّك الاتحاد السوفياتي في تسعينيات القرن العشرين، وقادتها منظمات يهودية أنشأت فروعاً عربية لها في المجتمع الفلسطيني.
تلك المنظمات اليهودية قضت عليها حكومات الكيان الصهيوني، وفق خطة أمنية طبّقتها على مدار سنوات، ولكنها أبقت على فروعها العربية التي تضخّمت مع الزمن وتركتها تترعرع برعاية أجهزة الأمن الإسرائيلية، خاصة الشرطة والأمن الداخلي (الشاباك)، بهدف زرع الخوف في المجتمع الفلسطيني ونزع الأمن منه، لتفكيكه وإشغاله بنفسه، وإبعاده عن المشاركة في النضال الوطني الفلسطيني.
مسؤولية الكيان الصهيوني عن جرائم القتل في المجتمع الفلسطيني داخل الأرض المحتلة عام النكبة تحدّث عنها الرئيس الفلسطيني محمود عباس في خطابه الأخير في شهر أيلول/سبتمبر في الأمم المتحدة قائلاً: “إسرائيل تتحمّل المسؤولية الكاملة عن الانتشار المتعمّد للسلاح والمخدّرات وأعمال القتل الإجرامية، كلّ يوم قتل وذبح، إسرائيل مسؤولة عنها”.
وذكرها مسؤولون أمنيون صهاينة عديدون، جاءت شهادة أحدهم في تقرير سابق للقناة الـ 12 الإسرائيلية بقوله: “إنّ المسؤولين عن الجرائم الخطيرة في المجتمع العربي في الداخل معظمهم متعاونون مع جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، وهذا الوضع يكبّل أيدي الشرطة ويمنعها من المسّ بهؤلاء المتعاونين المتمتّعين بالحصانة”.
كما أنّ القدرات والإمكانيات الأمنية للكيان الصهيوني مرتفعة جداً عندما يتعلّق الأمر بالعمليات الفدائية التي يقوم بها فلسطينيون من الداخل الفلسطيني، بينما تتراجع تلك القدرات والإمكانيات الأمنية كثيراً عندما يتعلّق الأمر بجرائم القتل الذاتية في المجتمع الفلسطيني، فلا تتجاوز نسبة الكشف عنها 30% فقط، إضافة إلى التساهل المتعمّد في عقاب المجرمين بسنوات السجن القليلة، مما يؤثّر سلبياً على الردع ضد الجريمة.
بناء على حقيقة مسؤولية الكيان الصهيوني الكبيرة عن جرائم القتل كرديف لسياسة الأسرلة من أجل تحويل الشعب الفلسطيني في فلسطين المحتلة عام النكبة إلى جموع بشرية غير مشاركة في الحركة الوطنية الكفاحية للشعب الفلسطيني، لا فائدة من انتظار الحل الإسرائيلي لظاهرة جرائم القتل الذاتية، خاصة إذا كان الإسرائيلي هو الجلّاد الذي يكتب سيناريو صراع الضحايا تماماً كما فعل الغزاة الأوروبيون في أفريقيا عندما جنّدوا بعض الأفارقة عبيداً لهم ليصطادوا أبناء جلدتهم ويسلموهم إلى الأوروبيّين ليستعبدوهم.
وتماماً كما فعل السادة الرومانيون عندما درّبوا بعض الأسرى الذين استعبدوهم ليلعبوا مصارعة الموت في حلبات المصارعة من أجل المتعة والتسلية… وهكذا يوّجه (الشاباك) بعض عملائه المباشرين وغير المباشرين، أو يهيّئ البيئة الأمنية لهم لينفّذوا سياسة الجلّاد في مسرحية صراع الضحايا.
والحل لإنهاء ظاهرة جرائم القتل يجب أن يكون وطنياً فلسطينياً، يجعل مكافحة الجريمة إجمالاً، والقتل خصوصاً، جزءاً من المشروع الوطني الفلسطيني ومقاومة الاحتلال، وهذا يتطلّب تكاتف كلّ قيادات الشعب الفلسطيني وفعاليات المجتمع الفلسطيني في الداخل المُحتل بمساندة ودعم الفلسطينيين في الضفة والقطاع نحو تنفيذ مشروع وطني متكامل يُشارك فيه علماء الدين، والقادة السياسيون، وزعماء المجتمع، ونشطاء الشباب… لممارسة الضبط الديني والوطني والمجتمعي والعشائري باتجاه محاربة الجريمة وعزل المجرمين وتعزيز التماسك المجتمعي والهوية الوطنية… وصولاً إلى القضاء على جرائم القتل.