مسؤولو لبنان يواصلون سياسة الاستغناء عن الليرة ورفع الضرائب
يستعدّ مجلس الوزراء اللبناني غداً الخميس لبدء مناقشة مشروع قانون الموازنة العامة لعام 2024، المُثقَل بالضرائب الجديدة، والرسوم التي سيُستوفى عدد منها بالدولار الأميركي، في مسارٍ مباشرٍ نحو الدولرة، التي تُدخل لبنان مرحلة اقتصادية جديدة، يُحذّر الخبراء من انعكاساتها الخطيرة على الوضع المعيشي لغالبية اللبنانيين، وفي زيادة معدلات الفقر والبطالة والجوع في البلاد.
وتنهال في الفترة الأخيرة على اللبنانيين زيادات غير مسبوقة تاريخياً في الأسعار، وفواتير خيالية، بشتّى القطاعات، رغم سوء الخدمات، ومن دون أن تتوفّر لهم أبسط حقوق العيش والصمود، والتقديمات الاجتماعية والتعليمية الواجب على الدولة أداؤها تجاه المواطنين، هم المحرومون حتى من الرعاية الصحية المجانية الملائمة.
وينتقد خبراء اقتصاديون مشروع قانون الموازنة العامة لعام 2024، الذي يأتي كمشروع موازنة عام 2023، الذي أقرّته الحكومة في 16 أغسطس/ آب الماضي، والمنتظرة مناقشته وإقراره من البرلمان، خالياً من الخطط الشاملة، والرؤى الاقتصادية السليمة، والإصلاحات، والعدالة الضريبية، ومن الخطوات المطلوبة لتخفيف أكلاف القطاع العام، أو إلغاء الوظائف الوهمية فيه، ومكافحة التهريب، والتهرّب الضريبي، والاقتصاد الأسود، وغيرها من التدابير الإصلاحية اللازمة، بينما تحلّ محلها التسهيلات المستمرّة للمحظيين، ورسوم وضرائب دولارية هذه المرّة، بذريعة وقف مصرف لبنان ضمن سياسته الجديدة تمويل الحكومة بالعملة الصعبة، وحتى بالليرة.
إيرادات من الضرائب
وأعدّت وزارة المال مشروع موازنة عام 2024 ملتزمة للمرّة الأولى بالمهل الدستورية، ورفعتها إلى مجلس الوزراء لمناقشتها ودراستها وإقرارها، وتتوقع من خلالها تحقيق إيرادات بقيمة 300.5 تريليون ليرة، أي بمجموع 3.5 مليارات دولار أميركي على سعر صرف 85500 ليرة للدولار، أما النفقات المقدرة فتصل إلى 300.5 تريليون ليرة، أي بزيادة 7.35 أضعاف عن موازنة 2022، وتبلغ حوالي 3.5 مليارات دولار على سعر صرف 85500 ليرة للدولار، بينما تعتبر وزارة المال أن العجز يبلغ ما نسبته 13.89 بالمائة.
ومن أهم الضرائب الجديدة التي يلحظها مشروع موازنة عام 2024، وأضاءت عليها أكثر “الدولية للمعلومات” (شركة دراسات وأبحاث وإحصاءات علمية مستقلة): رفع الضريبة على القيمة المضافة من 11 إلى 12 في المائة، ورسوم مقابل خدمة جمع النفايات الصلبة ومعالجتها، ويشمل مخيمات اللاجئين النازحين، وهي بالدولار الأميركي، إنما تُستوفى بالليرة. وكذلك رسم استهلاك للحفاظ على البيئة، وهو عبارة عن رسم جمركي يشمل جميع السلع المستوردة بين 1 و4 بالألف (ما يزيد عن الـ155 سلعة مستوردة حتى إنه يشمل النعوش التي تحتوي جثة بشرية)، واستيفاء عدد من الرسوم بالدولار الأميركي وليس بالليرة، وهي الرسوم الجمركية ورسم الاستهلاك الداخلي عند الاستيراد ورسوم كهرباء لبنان.
واللافت في هذه الموازنة أن جزءاً كبيراً من إيراداتها ستتم جبايته بالعملة الصعبة، منها تحصيل رسوم المطارات ورسوم المغادرة عن المسافرين بحراً وجواً بالعملات الأجنبية، وتحصيل الضرائب والرسوم المتوجبة على الشركات صاحبة الحقوق البترولية بالعملات الأجنبية، وكذلك تحصيل حصة الدولة من إيرادات كازينو لبنان بالعملات الأجنبية، وغيرها.
في السياق، يقول صادق علوية، عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في لبنان، والباحث في “الدولية للمعلومات”، لـ”العربي الجديد”، إن “إيرادات مشروع الموازنة مرتبطة بافتراض إقرار مشروع موازنة عام 2023، أي أن الحكومة اعتبرت أن موازنة عام 2023 هي تحصيل حاصل وكأنها مصدَّقة، بينما لم تُقرّ بعد من قبل مجلس النواب”.
شكوك حول السداد
من ناحية ثانية، يقول علوية إن “مشروع موازنة عام 2024 ابتدع ضرائب جديدة، بينما كان يقتضي من الحكومة قبل الإقدام على هذه الخطوة أن تقرّر كيفية معالجة التهرّب الضريبي الحاصل، إذ لا يجوز أن يُطلب من المواطن الذي يلتزم بالقانون أن يدفع ضريبة إضافية، في حين أن غير الملتزم والمُتهرِّب يعتبر معفى من الضريبتين”.
ويضيف علوية الأمر الثالث، و”يتعلق بمدى إمكانية التحصيل الفعلي لهذه الضرائب، فإذا كانت الضريبة المسماة رسماً بيئياً، بمثابة رسم جمركي إضافي، وإن كان بنسبة مئوية قليلة، إلا أنه في النهاية، وكما اعتدنا في لبنان، سيتحمّلها المستهلك اللبناني بشكل كبير، وبنسب مضاعفة عن النسبة الأساسية للضريبة”.
ويلفت علوية أيضاً إلى أن “عائدات الضريبة على القيمة المضافة قدّرتها الحكومة بـ90 ألف مليار ليرة، فهل سيقوم فعلاً أصحاب العمل والمؤسسات بتسديد الضرائب عن الدخل عن الفترات السابقة؟ وإذ حصل ذلك، فما هي قيمة المبالغ المسدّدة، ولا سيما أن الحكومة تريد كذلك وضع نسبة مئوية جديدة تبلغ 1% على ضريبة الدخل لتصبح 12% بدلاً من 11% أي أن 1% ستصل إلى المستهلك بنسبة أكبر، إذ يبدأ التجار برفع أسعار السلع 3 مرات أي عند وضع المشروع، ومناقشته مجدداً، ومن ثم إقراره، وكل ذلك سيكون كما العادة بمنأى عن رقابة وزارة الاقتصاد”.
كذلك، يشير علوية إلى أن “مشروع الموازنة رفَعَ الرسوم البلدية بشكل كبير جداً، لا بل اخترع رسماً جديداً هو رسم جمع النفايات، وهنا نسأل ما لزوم رسوم البلديات في حال لا تريد هذه الأخيرة أن تتولى مهام رفع النفايات، ومن سيتولاها؟ وما هي الكلفة الفعلية لرفع النفايات؟ وهل سيلجأ جميع المواطنين إلى تسديدها؟”.
ويتوقف عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في لبنان، والباحث في “الدولية للمعلومات” أيضاً، عند فرض رسوم إضافية على معاملات المصادقات بمديرية التعليم العالي، بحيث يصل المبلغ إلى 500 ألف ليرة عن كل ورقة، وهذا رقم كبير جداً.
وتوقف أيضاً عند الضجة التي أثيرت حول وضع الأموات المغتربين ضمن المنتجات المستوردة لتشملهم الضريبة، فأوضح أن “الحكومة استعجلت في ما خصّ الرسم البيئي من دون درسه، فأحضرت الرموز الجمركية كما هي، واختارت كل السلع لتخضعها لرسم نسبي من دون قراءة الجدول، وبالتالي، فإنها وضعت رسماً على جميع السلع، بما فيها تلك المستوردات المعفاة من الضريبة، علماً أن المجلس الأعلى للجمارك هو الذي يقرّر السلع التي تخضع أم لا للضريبة”.
ومن النقاط التي يتوقف عندها علوية أيضاً ويصفها بـ”الجنون”، استحداث رسم بدل خدمات سريعة وطارئة لدى الإدارات العامة يستوفى من الراغبين في إنجاز معاملاتهم بسرعة، “ما يضعنا أمام مشهد من يملك المال أكثر سيتمكن من إنجاز معاملاته، فتباع عندها معاملات الدولة بالمزايدة العامة”.
التحايل على القوانين
ويرى علوية أن “لجوء الحكومة إلى فرض رسوم بالدولار النقدي لا المقوّم بالليرة، أنها اعتبرت البلاد لا تستحق أن يكون لها عملة وبدأت إجراءات الاستغناء عن الليرة اللبنانية، ولكن بهذه الحالة، على الحكومة أن تمنح المواطنين التقديمات أيضاً بالدولار لا بالليرة، وتحدد الحدّ الأدنى للأجور بالدولار، وليس فقط الضرائب، ولتصبح عملة البلد الرسمية الدولار، بدل الالتفاف والتحايل على القانون بفرض ضرائب ورسوم بالدولار، بينما التقديمات لا تزال بالليرة”.
تبعاً لهذا كلّه، يقول علوية إن “الموازنة “مسلوقة”، قاموا بإعدادها على شكل جداول، “من أين نأتي بالمال، بغض النظر عن التقديمات”، موازنة بقيمة 3.5 مليارات دولار، التقديمات فيها صفر، نفقات الدولة بالدولار، رواتب الموظفين بالليرة، وبالتالي، الأمر بحاجة إلى عادة هيكلة أفكار المسؤولين”.
ويحذر المتحدث ذاته من أن إقرار هذه الموازنة يعني “مزيداً من الفقر والفقراء، والتسرّب المدرسي، وارتفاع في أعداد المرضى الذين يموتون على أبواب المستشفيات، وتراجعاً في فرص العمل، والحماية الاجتماعية، وزيادة التهرب الضريبي مع تراجع أعداد المصرِّحين عن الضريبة، وزيادة التهريب مقابل تراجع العائدات الجمركية، وسندور بالتالي في حلقة مفرغة أكثر”.
ويرى أنه “إذا طلب صندوق النقد الدولي بشكل صريح إقرار هذه الموازنة، فإن مجلس النواب سيجتمع ويقرّها بغض النظر عن العنتريات السياسية، وسيجتمع حينها الممتنعون عن الاجتماع، وإذ لم يطلبها ولم تفضِ كذلك المفاوضات مع البنك الدولي إلى طلب إقرارها، فإن العنتريات ستستمرّ وستبقى البلاد بلا موازنة”.
ويشدد علوية على أن “لا المواطنين ولا النخب في هذا البلد هم بحسبان المسؤولين، هناك افتقاد لثقافة الدولة ودولة القانون والخدمات، ونحن بكل صراحة في دولة هي بمثابة جهاز يقوم بجباية الأموال فقط، مقابل تقديمات صفر للمواطنين”.
من جهتها، تقول المحامية في “رابطة المودعين”، دينا أبو زور، لـ”العربي الجديد”، إن “هاتين الموازنتين تجعلنا نبقى ندور في حلقة مفرغة، وكل الموازنات للأسف توضع وتقرّ من دون دراسة، وخارج أي خطة شاملة ورؤية اقتصادية، وبلا أي مواكبة للأزمة أو مراعاة لحجم الانهيار الحاصل”.
وتشير أبو زور إلى أن “مشروعي موازنتي 2023 و2024 يحمّلان المودعين والمستهلكين الصغار والفئات الضعيفة عبء ومسؤولية الأزمة الاقتصادية، ويفاقمان معاناتهم، بينما يبقى كبار المستثمرين والأثرياء محظيّون، وكذلك الخارجون عن القانون”.
وتعتبر أبو زور أن “أخطر ما يحصل هو إدخال البلاد في مسار الدولرة الذي يريد المسؤولون أن يشملوا به حتى رسوم الدولة، بما في ذلك تحصيل الرسوم التي تستوفيها مؤسسة كهرباء لبنان بالعملة الأجنبية، ما يدفعنا إلى التساؤل جدياً ما النفع من بقاء الليرة كعملة رسمية للبلاد؟”.
ومن النقاط الخطرة أيضاً التي تتوقف أبو زور عندها، استحداث رسم بدل خدمات سريعة وطارئة لدى الإدارات العامة، و”هذا أمرٌ خطيرٌ في بلد مؤسساته غير فعّالة وتسير أصلاً بمنطق المحسوبية والاستنسابية والرشاوى، لكن هذه المرّة يتم شرعنتها بقانون يفرض على المواطن دفع مبلغ مالي مقابل كل معاملة يريد إنجازها”.